قصه الرسام فنسنت فان جوخ

فان جوخ يشكل بين الانطباعيه وبين الحداثه ::::::::

إن تعريف الفن بالنسبة للعديد من المفكرين على مر العصور هو الصراع على إظهار الجمال لكن أيضاً في عصور عديدة كان التعريف المباشر للفنان هو الإنسان الذي يعيش حالة ابداعية خاصة تضعه بين الواقع والخيال اي في حالة رؤى وبالتالي فهو اقرب لأن يكون مغيبا عن الواقع اي ان هناك احتمالية ان ننعته بالجنون فمثلا نجد ان الفنان في محاورات الفيلسوف الإغريقي افلاطون هو هذا الشخص الذي تتلبسه ربات الفنون فيصبح في حالة هوس لينطق عن وحيهن هن اي ربات الفن هذا التعريف عند افلاطون قد لا يختلف كثيرا عن ما ننعت به الفنان في اواخر القرن الـ 19 فبالتحديد معظم فناني هذه الفترة اي النصف الثاني من القرن الـ19 هم من ينطبق عليهم لقب مهووس او مجنون كما ان ذلك يبدو جليا على مستوى الفنون التشكيلية ايضا كانت المدارس الفنية في هذه الفترة قريبة جدا من التمرد على مخلفات الشطر الأخير من عصر النهضة وهو الركوكو والذي هو اشد ما يكون من التكلف حتى اننا قد نطلق عليه مرحلة انهيار جماليات عصر النهضة وبالتالي كانت مدارس الفن التشكيلي في نهاية القرن الـ 19 محملة بعواصف التمرد والتجديد ونأخذ على سبيل المثال المدرسة الانطباعية فهي نشأت في فرنسا على يد مجموعة من الفنانين الفرنسيين عام 1870 بالرغم ان بعض المؤرخين الفنيين يرجعون ارهاصات ظهور الانطباعية الى قبل ذلك بكثير كما انه كان لها ارهاصات في اسبانيا وإيطاليا لكن اول الأعمال التي يمكن ان نطلق عليها انطباعية خالصة كانت بالفعل في سبعينيات القرن الـ19 ونستطيع ان نصف الفنان الفرنسي ادوارد مانيه بأنه ابو الانطباعية وكذلك بيسارو لكن نحن نحاول ان ندخل من باب الانطباعية الى عالم فنان ملغز وعميق وشكلت الصدمات العاطفية في حياته وفنه جزءا قويا اثر في كل اعماله وهو الفنان الهولندي فنسنت فان جوخ الذي والحق يقال لم يتعرض فنان اكثر منه للاتهام بالجنون والجموح العصبي بالرغم من انه كان اقرب الى الهدوء و الانعزال منها الى الاختلاط لكن على اية حال لقد كتب عنه العديد من النقاد في كثير من المناسبات وكان اشهرهم ما كتب عن سيرته الذاتية وفنه واسلوبه ومعظم نقاد الفن التشكيلي والمتخصصين يبالغون في اطرائهم لفان جوخ والغريب في الأمر انهم ينسبون فان جوخ الى مرحلة ما بعد الانطباعية بالرغم من ان 99 % من النقاد التشكيليين يضعونه جنبا الى جنب مع فناني الانطباعية الأوائل لكننا قد نتقبل هذا التصنيف الجديد اذا اعتبرنا ان فان جوخ من اهم مطوري الانطباعية وهي لازالت بعد وليدة ولكي يعرف القاريء ماذا تعنيه الانطباعية فهي بشيء من التبسيط نوع من انواع التصوير التشكيلي والذي يتجرد من التعقيد الذي كان في المدارس الكلاسيكية السابقة فالانطباعيون يصورون المشهد من الطبيعة مباشرة في لوحاتهم من وحي الانطباع الأول ( وهذا سبب تسميتهم بالانطباعيين ) بمجرد النظر اليه كما يستخدمون الضوء بصفة انعكاسية فوق سطوح الأشياء وبالتالي قد تشاهد اهتزاز الضوء فوق سطوح اللوحات الانطباعية بشكل واضح كما ان الانطباعيين يبتعدون عن صفة تقسيم الألوان وخلطها بل كانت الوانهم متجاورة كما اتجهوا الى السرعة في تصويرهم واستخدامهم تقنية حركة الفرشاة بمهارة شديدة ولذلك قد يستطيع المشاهد العادي ان يكتشف ببساطة اتجاه ضربات الفرشاة في لوحات الانطباعيين .
ومنذ وفاة فان جوخ في 1890 والكل يعتبر ان فان جوخ من رواد الانطباعية الا ان العديد من النقاد الآن يؤكدون انه كان من حلقة الوصل بين الانطباعية ومدارس فن تشكيلية اخرى مثل الدادية والتكعيبية على اية حال فان انتماءه للانطباعيين واضح وليس بحاجة الى اثبات سواء كان ذلك يعني انه مطور او من صلب الحركة نفسها .
لكن الجديد في حياة فان جوخ كان ما كتب على ضوء اكتشاف مجموعة من خطاباته منذ وقت قصير كشفت عن حوادث في حياة فان جوخ كانت غامضة جدا حاولوا ان يلقوا الضوء عليها بشيء من التفسير والإيضاح في ضوء اكتشاف مجموعة جديدة من الخطابات التي كتبها فان جوخ للعديد من معارفه مثل الفنان بول جوجان و حبيبته أورسولا بالاضافة للمجموعة القديمة التي كتبها لأخيه ( ثيو ) وحاولوا القاء الضوء على حوادث مثل قصة حبه لأورسولا تلك الفتاة الانجليزية او حتى قصة حبه الملتهبة لابنة عمه كورنيليا ولكن قبل ان ندخل الى عالم فان جوخ وتفاصيله الذي قد تتميز بالعبقرية والجنون في نفس الوقت حري بنا ان نعرف القاريء بفان جوخ بشكل انساني فسيرة حياته لا تمشي على وتيرة واحدة وتمتليء بالقفزات من الشمال للجنوب ومن اقليم الى آخر .
ولد فنسنت فان جوخ في بلدة جروت زندرت في هولندا في 30 مارس عام 1853 وكان والده ثيوزروس فان جوخ قسا لاحدى الكنائس الأصلاحية ولقد كان لذلك اشد التاثير عليه في احدى مراحل حياته حيث حاول ان يتحدى والده في ان يكون قسيسا .
في سنوات عمره الأولى لم يحب الدراسة كثيرا بحيث كان يدرس في مدرسة الملك وليم الثانوية والتي قرر في 1868 الانقطاع عنها بل والتوقف عن الدراسهة نهائيا لكن لا نستطيع ان نقول ان فان جوخ كان فنانا غير متعلم بل نؤكد ان الفن كان خير مدرسة واهم معلم لفان جوخ فنحن نرد على من يتهم فان جوخ بانه بدأ الرسم في سن متأخرة وانه لم يكن في الأساس فنانا غير حقيقي فنحن نعرف ان المتخصصين في بيع اللوحات الفنية هم فنانون لكن تحت صفة تجارية وبالتالي بدا فان جوخ الفن من باب التجارة وفي سن مبكرة جدا ففي عام 1869 عمل فان جوخ في اكبر صالات الفن في لاهاي وهي ( سي و جوبيل ) وهذه المؤسسة بالتحديد كان اعمام فان جوخ من كبار مديريها ومؤسسيها ومن هنا دخل فان جوخ الفن عن طريق الرؤية واستخدام حاسة البصر ويجب ان نجزم أن الذي يعمل في بيع التحف يجب ان يكون على دراية كاملة بأساليب الفنانين والتشكيليين وانتماءاتهم الفنية حتى يتسنى له أقناع العميل بشراء القطعة الفنية من خلال التغطية الفنية لها وهذا بالتحديد ما قصدنا ان نلمح اليه.
ولشدة اتقان فان جوخ وتفوقه في عمله ارسلته الشركة الى فرعها في لندن عام 1873 ويجب ان نقر ان هذه الواقعة مهمة جدا في حياة فان جوخ لسببين رئيسيين هما اولا دل ذلك على تفوق فان جوخ في عمله مما أهله لهذه النقلة ثانيا كانت هناك فرصة في انتظار فان جوخ من خلال زيارة لندن سوف تدفع به لتذوق ادب شارلز ديكينز وجورج اليوت لكن بالتحديد كان ديكينز اكثر تأثيرا في فان جوخ واكبر دليل على ذلك انك اذا نظرت الى شخصيات فان جوخ في بداياته الفنية سوف تجد انها هي نفس الشخصيات الكئيبة التي يصورها ديكينز في اعماله الروائية كما سوف نجد نفس الأجواء الخاصة بديكينز تسيطر على اجواء لوحات فان جوخ واكبر مثال على صدق هذه النظرية هي لوحة ( اكلة البطاطا ) والتي انجزها عام 1885. اذن كانت السنتان اللتان قضاهما في لندن من اسعد سنوات عمره كما يصفهما فان جوخ نفسه كما يجب ان نلفت النظر ان اول تجربة عاطفية هزت مشاعر فان جوخ حدثت في هذه الفترة التي قضاها في لندن حيث كان يسكن مع الأرملة اوجيني وابنتها اورسولا والتي ما لبس ان وقع في حبها فان جوخ وحاول التقرب اليها لكنها صدته بشكل شديد الخشونة حيث كان ردها عليه انها اذا فكرت في ان تتخذ عشيقا بالتأكيد ليس هو لأنها كما كانت تراه هو الريفي الساذج الذي وجد نفسه فجاة بين فتيات المدينة لكن الكتاب الجديد يوضح ذلك بأن البنت هي اوجيني وليست أورسولا وانه من الممكن ان يكون فان جوخ قد وقع في حب الأم وليست الفتاة لكنه ايضا حاول التقرب من الفتاة لكنها صدته بعنف لأنها كانت تعرف انه حاول التقرب من والدتها .
لكن ولسبب ما قد يكون فشله العاطفي بدأت المشاكل تنشأ بينه وبين المؤسسة التي يعمل بها وحيث تم نقله الى فرع الشركة في باريس لكنه قرر وبعد وقت قصير ترك المؤسسة نهائيا وعاد الى لندن وعمل معلما لمجموعة من الأطفال في احدى الكنائس كمدرس للغة الفرنسية لكنه وبشكل فجائي قرر تكريس نفسه للخدمة الكنسية ومن هنا عاد الى هولندا الى منزل اسرته وقرر الالتحاق بالمدرسة التبشيرية في لايكين بعد ان درس لبعض الوقت في كلية اللاهوت ويرجع ( ماركوس لافارو ) احد جامعي سيرته الذاتيه هذه الجذبة الدينية التي انتابته الى فشله في حبه بالفتاة الانجليزية اورسولا .
ولكي يتخطى فان جوخ هذه الأزمة القوية بدأ في رسم مجموعته الأولى بل و تعرف على احدى فتيات الليل وعاش معها هي وابنتها لمدة عام ونصف ولقد كانت كما يقال فيما بعد انها كانت موديلا قويا لبعض اعماله فهي قد امدته بالشعور الأسري ايضا وفي عام 1885 فجر فان جوخ قنبلته الأولى حيث اخرج للوجود لوحته الشهيرة آكلة البطاطا والتي تصور عائلة فقيرة جدا في اجواء كئيبة تتناول عشاءها الليلي وجبة من البطاطا وهي شديدة الحساسية والقوة من حيث اللون وتوزيع الضوء والظل. وفي عام 1886 انتقل الى قبلة الفن التشكيلي في ذاك الوقت باريس وحاول ان يصور كل ما تقع عليه عينه ويجد فيه مجالا خصبا للتصوير وفي العام التالي 1887 انتقل اخوه ( ثيو ) للعيش معه في باريس وكان ثيو يعمل كتاجر للوحات الفنية باعتبار ان هذه المهنة واسعة الانتشار في اسرة فان جوخ وفي هذا العام انجز فان جوخ العديد من اعماله العظيمة مثل صورة بيري تانجاي كما انه منذ هذه اللحظة وقع تحت تاثير الانطباعية بكل ما تحمله من تجديد وبهجة لونية.
لكن فان جوخ في هذه المرحلة التي قد نصفها بانها مرحلة اعتاب الجنون قد انجز اهم لوحاته الانطباعية على الاطلاق مثل تحفته الشهيرة (نظرة على ارليس) والتي باعتها دار كريستي منذ عشر سنوات بـ13 مليون جنيه استرليني ولقبت وقتها بأغلى لوحة في العالم .
كما انجز فيها أيضاً لوحته الشهيرة (الليلة المضيئة بالنجوم ) ولوحة (عباد الشمس) ومع كثرة النوبات العصبية التي كانت تنتابه في هذه الفترة اكد طبيبه النفساني دكتور جاشي الطبيب الفرنسي الشهير انه مصاب بالصرع وهذا يدفعه في بعض الأحيان لنوبات من الجنون فمثلا اصيب في 1889 بنوبة اراد ان يبتلع فيها لوحاته وكان بعد كل نوبة يتم ادخاله المصحة لعدة اسابيع ثم يعود لممارسة عمله بعد ذلك وكان في هذه الفترة ايضا قد بدا نجمه يبزغ وبدأت لوحاته تجني اموالا كثيرة في المعارض كما كان اخوه ثيو يعاني معاناة شديدة نتيجة لمرضه حتى مرض ثيو نفسه.
وفي 27 يوليو 1890 اطلق فان جوخ الرصاص على صدره لكنه لم يمت سريعا ولكنه مات في يوم 29 يوليو 1890 بين يدي اخيه ثيو ورفضت الكنيسة في اوفيرس في فرنسا الصلاة عليه لأنه منتحر لكن مدينة ميري وافقت على دفنه واقامة جنازة له ومن شدة حب اخيه ثيو له وحزنه عليه توفى بعده بستة اشهر و نقل رفاته الى جوار اخيه فان جوخ عام 1914 .
وهكذا فان جوخ هو القسيس الفاشل والفنان الناجح والحبيب الذي رفضته كل النساء والمنتحر الذي لم تقم له مراسم لتشييعه لكنه في كل الأحوال كان عبقريا من عباقرة الفن التشكيلي و رائدا من رواد الانطباعية

يلا ردودكم الحلوه